عِبَرُ الألماسِ والثلج!
قد يستوي الألماس والثلج في المظهر واللون، وتأتي العراقيل وعقابيل الطريق وحرارة التحديات؛ ليعلم الثلج من أصدق بقاءً وأثبت نفعاً وأكثر صموداً.. الرسالة التي يوجهها الألماس للثلج: (لا تخدعنك الّلحاء والصور!).
إنَّ الألماس رمزٌ للصمود والثبات، والثلج رمزٌ للهمم الخائرة البائرة التي خُدعت بطلاء جمَّلها في ظاهرها مع خراب داخلها وما يحمله من كوائن،
فلو أبحرت في خلجات تلك النفوس لعلمت حجم المأساة وأنَّ المآل من الذوبان والتلاشي والانصهار كان حقيقةً ترتبت على تراكم أسباب!
لا يزال الكلام على ساحة الورق لم يخرج عن إطار التنظير والتلذذ بعذب الألفاظ دون غور في حقيقة المثال، ثباتُ الألماس في وجه انصهار الثلج!
نموذج تاريخي:
دخل الشيخ يرسف في قيوده أمام الخليفة (الواثق)، ورغم ما فيه من محنة وضيق وأغلال تقيده إلا أنَّ المهابةَ كانت تحيطه،
ويتفجر الشموخ وحسن الظن بالله من بين جوانحه، لقد تأثر الخليفة رغما عنه من جلالة الشيخ واستحى منه ورقَّ له وقال: “اجلس”.
جلس الشيخ، ولا زال ألَق ووميض مهابته يزداد بريقا، تُرى ما يحمله هذا الشيخ في صدره وعقله؟!
لحظاتٌ مضت وتكلم الخليفة قائلا: “يا شيخ ناظِر أحمد بن أبي دؤاد قاضي المعتزلة في مقالته بخلق القرآن”.
فنظر الشيخ وقال: “يا أمير المؤمنين، إنَّ ابن أبي دؤاد يَصْبَى ويضعف عن المناظرة!”.
فتفجر الغضب على وجه الخليفة وأبرق عينيه وكأنه يقول لنفسه: “من هذا الرجل، أي كائن يكون؟ أهو كتلةٌ من حديد أم أنَّ كبرًا وعجبًا قد ملأ نفسه سرعان مايذهب؟!” قال الخليفة صارخا: “أبو عبد الله بن أبي دؤاد يَصْبى ويضعف عن مناظرتك أنت؟!”.
فقال الشيخ وقد ازداد هدوءًا: “هوِّن عليك يا أمير المؤمنين، مابك؟! فائذن في مناظرته”.
فقال الواثق: “ما دعوتك إلا للمناظرة”، فقال الشيخ: “إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تحفظ عليّ وعليه ما نقول”.
فقال الخليفة: “نعم أفعل”، فالتفت الشيخ إلى صاحب البدعة (أحمد بن أبي دؤاد) بنظرةٍ خاطفة، وقال: “هذه المقالة التي تدعو الناس إليها، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، أو لم يعلموها؟”، قال: “لم يعلموها”.
قال الشيخ: “فشيءٌ لم يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟!”، قال الرجل: “فإني أقول قد علموها”، فقال الشيخ: “أفوسعهم أن لا يتكلموا به ولا يدعو الناس إليه، أم لم يسعهم؟”، قال: “بلى وسعهم”، فقال الشيخ: “فشيءٌ وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟!”، فانقطع الرجل وصمت طويلا ولم يجب؛ فقال الخليفة: “لا وسَّع اللهُ على من لم يسعه ما وسعهم”.
ها هنا يبْرقُ ألق الألماسة الثمينة في الوقت الذي يتوارى الثلج حياءً وخجلاً حال انصهاره..
إنَّ الدعاوى كثيرة والمزاعم أكثر، وكلٌّ يدعي وصلاً بليلى، وتبقى المواقف والتحديات شاهدًا على ثبات الألماس وذوبان الثلج؛ فاحذر أن تكون ذا دعوى وإن ستر ظاهرك باطنك، فأشعة الشمس تبقى مهددةً لبقاءك.