حقائق وأسرار في مسجد عمرو بن العاص
ولد عمرو بن العاص في مكة حوالي عام 573 ميلادية، وتوفي في مصر حوالي عام 663 ميلادية، وهكذا، ربما عاش حياة حافلة بالأحداث الجسام على امتداد 90 عاماً. وكما نعلم فإن نسبه يعود إلى قبيلة قريش التي يحدثنا التاريخ بأنها كانت قبيلة قوية تمتهن التجارة وشاء لها القدر أن تسيطر تدريجياً على مكة.
تحدثنا كتب التاريخ كذلك بأن أبناء قبيلة قريش قد نظروا في البداية إلى الإسلام باعتباره عدوهم الطبيعي، وشارك عمرو بن العاص في العديد من المعارك التي اندلعت بين الجانبين، لكنه عندما شاهد بعض أعدائه من المسلمين وهم يصلون امتلأت نفسه بالفضول وبالرغبة في أن يعرف المزيد عما يقومون به، وسرعان ما أسلم بل وأصبح من قادة المسلمين.
دخل عمرو بن العاص الإسلام في العام الثامن للهجرة، وقام بدور سيادي بارز في القتال ضد المشركين من القبائل في شبه الجزيرة العربية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، الذي رأى فيه قدرات قائد عسكري ملهم، وسرعان ما وجد بن العاص نفسه يشغل منصب القائد العام في جيش المسلمين المكلف بفتح مصر، وعقب ذلك عُين والياً لها.
قبيل دخول المسلمين بقيادة عمرو بن العاص مصر، كانت خاضعة لحكم الرومان الصارم، وتمكن بن العاص من إقناع الخليفة عمر بن الخطاب بأن يعهد إليه قيادة جيش مسلم قدر له أن يكون من القوة بحيث يتصدى لقتال الرومان، ونجح عمرو بن العاص في خوض معاركه العديدة ضد الرومان، وأنقذ أقباط مصر من حكمهم القاسي.
نجح عمر بن العاص كذلك، في إقناع الخليفة بضرورة بناء مسجد جامع في القاهرة، وجمع هذا المسجد بين الرحابة والجمال، وحرص الكثير من المسلمين على أن يشدوا الرحال إليه. ولم يكن ذلك بفعل رحابته وحجمه الكبير فحسب.
عندما بني هذا المسجد الذي عرف بأول مسجد جامع في الإسلام، كان بسيطاً شأن ما يحيط به وشأن المواد الأساسية التي بني بها، وكل من يزوره اليوم سيدهش حيال الموقع البسيط الذي شغله، ولكن هذا كان راجعاً للحقيقة القائلة إن عمرو بن العاص لم يتمكن من العثور على الموقع المناسب للجامع الذي كان في ذهنه.
ومن الطبيعي أن المسجد الأصلي، الذي بني بشكل بسيط من جذوع النخيل والأحجار الخشنة التي جمعت من المنطقة المحيطة وقوالب الطوب المضروبة من الطين اللبن، قد تغير كلية خلال العهود الأموية، العباسية، الأيوبية والمملوكية.
وهكذا فإن جذوع النخيل قد حلت محلها أعمدة من الرخام وأضيفت المآذن السامقة. ومن طريف ما يروى أن حمامة كانت السبب الرئيسي وراء اختيار موقع المسجد الذي شيد فيه.
ويقال إنه عندما فتح عمرو بن العاص مصر ضرب خيمته أو فسطاطه كما كان يقول، في الجانب الشرقي من نهر النيل، ولكنه قبل أن يواصل حملته ضد جيوش الرومان وجد أن حمامة قد اتخذت من أعلى فسطاطه عشاً لها، بل وباضت في هذا العش أيضاً، واتباعاً لتعاليم الإسلام الحنيف المتعلقة بالرفق بالحيوان من جانب الإنسان، لم يقم عمرو بهدم فسطاطه الذي تحول موقعه إلى الموقع الذي شيد فيه مسجده الجامع.
لدى عودة عمرو بن العاص من الإسكندرية، أعلن أن هذه المنطقة ستصبح العاصمة الجديدة والتي حملت اسم الفسطاط نسبة إلى خيمته العتيدة. وفي وقت لاحق أمر ببناء المسجد في هذه البقعة عينها، وهي بقعة تطل على النيل إلى الشمال من قلعة بابيلون.
وبينما بني المسجد على مساحة تبلغ حوالي 1500 ذراع مربع بقياس 29 متراً طولاً و17 متراً عرضاً، فقد استخدم في بنائه الخشب وسعف النخيل، وجعل سقفه من جذوع النخل، بينما كسيت أرضيته بالحصى.
وبالطبع فإنه لم يبق شيء من بناء المسجد الأصلي القديم، فقد غير تغييراً تاماً وتم توسيعه خلال العصور اللاحقة. وكما سبقت لنا الإشارة، فإن جذوع النخيل حلت محلها أعمدة الرخام، وزينت الجدران وبنيت المآذن وزيد عدد المداخل. ومخططه الحالي هو عبارة عن صحن تقليدي مفتوح تحيط به أربعة أروقة أكبرها بالطبع هو رواق القبلة، الذي نعرف جميعاً أنه يعتبر جزءاً أساسياً من أي مسجد.
وهكذا أصبح مسجد عمرو بن العاص واحداً من تلك الأماكن التي لا ينبغي أن يفوت زائر القاهرة الانطلاق إليها. وعندما يزور المرء هذا المسجد، فإن عينيه تقعان اليوم على ما يعتبر أول مسجد جامع بني في الإسلام.